المدينة التأريخية المحروقة في مدينة زاهدان هي مهد الحضارة الإيرانية العريقة + صور وفيديو


محافظة سيستان وبلوشستان ذات بوادي شاسعة وسلاسل جبلية جرداء وخضراء وأرياف جميلة، ومختلف نواحيها استوطنت من قبل الأسلاف على مرّ التأريخ نظراً لطبيعتها الرائعة وخيراتها العظيمة، لذلك فهي زاخرة اليوم بآثار وأطلال تضرب بجذورها في شتى العصور ومن جملتها مدينة كاملة قد احترقت منذ القدم والتي يطلق عليها باللغة الفارسية اسم "شهر سوخته" أي المدينة المحروقة أو المحترقة The Burnt City.  

خاص بوكالة تسنيم الدولية للأنباء- هذا التقرير هو من سلسلة التقارير الخاصة بوكالة تسنيم الدولية للأنباء حول أجمل المعالم الأثرية والأماكن السياحية والدينية في إيران والتي تستقطب سنوياً الملايين من السائحين والزائرين المحليين والأجانب، وهناك الكثير من المناطق التي ما زالت بكراً ولم تشيد فيها مواقع خاصة لتقديم خدمات سياحية لكن يمكن للمتكتشفين ومحبي الطبيعة شد الرحال إليها لاستطلاع معالمها عن كثب والتلذذ بمناظرها الطبيعية والجغرافية الفريدة من نوعها، وإيران هي واحدة من البلدان الأكثر أماناً في العالم وجميع السائحين والزائرين يمضون أوقات ممتعة في أجواء آمنة حين يقصدونها كما أن نفقاتهم المالية أقل بكثير مما ينفقونه فيما لو قصدوا أي بلد سياحي آخر، لذلك فإن أعدادهم تتزايد عاماً بعد عام.

محافظة سيستان وبلوشستان بمركزية مدينة زاهدان ذات مناظر طبيعية فريدة من نوعها تتنوع بين السهول الخضراء والبوادي الشاسعة الجرداء وكذلك الجبال المرتفعة والمنخفضة الخضراء والجرداء، والأهم من كل ذلك آثاراها القديمة التي تضرب بجذورها في شتى الحقب التأريخية ولا سيما مدينة قديمة محترقة يطلق عليها باللغة الفارسية اسم "شهر سوخته" أي المدينة المحروقة التي تعتبر مهد الحضارة الإيرانية لدرجة أنّ البعض اعتبر التعرف على معالمها يعني التعرف على واقع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القديمة في إيران القديمة.

تقع هذه المدينة شرقي الجمهورية الإسلامية وهي تحظى بأهمية بالغة على صعيد المنطقة بأسرها، فالاطلاع عن كثب على الآثار المتبقية منها يسهل التعرف على حقيقة العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت موجودة بين مختلف الحضارات التي شهدتها شبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والمناطق المحاذية للخليج الفارسي وبين النهرين.

ولدى دراسة الآثار المتبقية من هذه المدينة المحترقة يتسنى للباحثين التعرف على مسيرة التحول العلمي والفني والثقافي في إيران، ولا سيما على صعيد المسائل التالية: علم الآثار، علم الاجتماع، التجارة المحلية والدولية، تأريخ التمدن والعمارة، مسيرة التحول المعماري، مسيرة تطور الفنون التقليدية، تأريخ بداية الكتابة، تأريخ العلوم الطبية وسائر العلوم المرتبطة بها، علوم الحيوان، التغذية، الزراعة، البيطرة، تربية المواشي، علم الحشرات، علم النبات، علم الأرض، فنون تركيب الفلزي، فنون صناعة الفخار، فنون صياغة المجوهرات، الحياكة. كل هذه الأمور يمكن استيحاؤها من الآثار التي تم استكشافها في هذه المدينة الأثرية.

* مدينة زاخرة بالآثار المتنوعة

استكشف علماء الآثار خلال تنقيباتهم في هذه المدينة المحروقة "شهر سوخته" الكثير من الآثار ومن جملتها وسائل طب وجراحة متطورة آنذاك، وقطع قماش فاخرة، قطع فخارية مطلية بأصباغ ثابتة، أطعمة مخزّنة، وغير ذلك الكثيرة.

تقع هذه المدينة الأثرية على مسافة 56 كم من مدينة زابل وعلى قارعة الطريق الواصل بين هذه المدينة ومدينة زاهدان، وتشتمل على تلال يتراوح ارتفاعها بين 12 إلى 18 كم من سطح الأرض، ويقول علماء الآثار إنها تضرب بجذورها في 3500 أو 4000 سنة قبل الميلاد.

* بداية الحفريات التنقيبية

ابتدأ التنقيب في المدينة المحترقة "شهر سوخته" في عام 1967م وما زالت العمليات الاسكشافية متواصلة حتى يومنا هذا، حيث أطلقها فريق من علماء الآثار الإيطاليين تحت رعاية مركز دراسات الشرق الأوسط والشرق الأدنى الإيطالي بإشراف الخبير "توجيه" وبالتعاون مع مؤسسة علم الآثار الإيرانية وفي عام 1974م انطلقت عمليات جديدة من التنقيب بإشراف الخبير الإيراني منصور سيد سجادي.

وتفيد بعض المصادر التأريخية أنها سميت بهذا الاسم، أي المدينة المحروقة أو المحترقة "شهر سوخته" قبل 150 عاماً حينما عثر السكنة المحليون على آثار لبقايا مدينة قد احترقت بالكامل، ويقول البعض إنها أمضت أربع مراحل من الاستقرار والثبوت هي مرحلة التأسيس، ومرحلة الازدهار، ومرحلة بداية الزوال، ومرحلة الزوال. وتفيد الشواهد أنّها أحرقت مرتان، المرة الأولى في عهد ازدهارها، والمرة الثانية في عهد زوالها، وأول من ذكرها بهذا الاسم عالم الآثار البريطاني أورال شتاين.

ومن جملة الآثار التي تم العثور عليها في هذه المدينة بناء كبير على هيئة مستطيل فيه ممر طويل ومدرجات بمساحة 500 كيلومتر مربع، وجدرانه سميكة يبلغ ارتفاعها 3 م وهو عبارة عن قصر قديم وبقاياه تدل على أنه قد احترق، وجراء الحفريات والتنقيبات التي أجريت فيه تم العثور على آلاف القطع الأثرية من الفخار وغيره، كما عثر فيه على العديد من الملحقات الأخرى كالغرف والممرات والدهاليز وما إلى ذلك من فنون العمارة.

* مقبرة فريدة من نوعها في "شهر سوخته"

في عام 1972 م اكتشف أول قبر في المدينة المحروقة "شهر سوخته" خلال الحفريات، ويؤكد المنقبون على أنّ القبور التي عثروا عليها استخدم فيها اللبن للحفاظ عليها من الزوال بسرعة، والطريف أن هذه القبور متنوعة الأشكال من حيث البنية والمحتويات ولربما لا يعود سبب ذلك إلى سن المدفون أو جنسه، وإنّما السبب يرجع إلى المعتقدات الدينية والإثنية لأهالي تلك الديار من حيث المذهب والطبقة الاجتماعية.

وفي بعض القبور تم العثور على العديد من الوسائل الشخصية كالحلي والقطع الدينية الصغيرة ومنتوجات الحرف اليدوية وأطعمة وأواني فخارية، ولا يكاد قبر يخلو من هذه الأشياء كلها أو بعضها.

* أول عملية جراحة للجمجمة وأول عين صناعية في التأريخ البشري

في عام 1977 م وضمن عمليات التنقيب الأثرية في المدينة المحروقة "شهر سوخته" اكتشف قبر جماعي فيه عدة أموات ومن ضمنهم هيكل عظمي لفتاة في الثالثة عشرة من عمرها، وقد اكتشف العلماء في جمجمتها آثاراً لعملية جراحية على هيئة شق مثلث الشكل يقع في النصف الأيمن منها لذلك اعتبر بعض الخبراء إنه ربما يرجع إلى عملية جراحية أجريت للجمجمة آنذاك لعلاج أحد الأمراض، ولكنها كانت عملية فاشلة والفتاة توفيت بعد عدة أشهر من إجرائها.

أضف إلى ذلك ففي عام 2006 م اكتشف المنقبون على عين صناعية في هذه المدينة الأثرية في هيكل عظمي لامرأة عثر عليها ضمن المقابر التي عثر عليها، وهي مصنوعة من القار الطبيعي ومركبة مع جلد حيواني وقد حبكت بشكل عجيب حيث تم ربطها ببدن المرأة بخيوط رقيقة من الذهب يبلغ قطرها أقل من نصف مليمتر، وهذه العين محفوظة اليوم متحف واقع جنوب شرقي مدينة زاهدان.

وهذه المرأة حسب التخمينات يتراوح سنها بين 28 إلى 32 عاماً وقد اكتشفت في قبرها العديد من القطع الأثرية التي تدل على أنها كانت من الطبقة المرفّهة.

* صناعة أنموذج مماثل للعين الصناعية

بعد اكتشاف هذه العين الصناعية القديمة الفريدة من نوعها، بادر الباحثون والمختصون إلى صناعة أنموذج مماثل لها كما صنعوا دمية مشابهة لصاحبة هذه العين بمعونة فريق من الفنانين والمعنيين بصناعات الماكيت وذلك في عام 2015 م وفي هذا السياق قالت السيدة نگار نادري پور الخبيرة في صناعة التماثيل: صناعة هذا الأنموذج وتصور وجه السيدة التي ركبت العين في جمجمتها قد أجري في إيران لأول مرة، حيث اعتمدنا على الأسلوب التصويري ثلاثي الأبعاد.

* الحلي الفاخر في المدينة المحروقة "شهر سوخته"

الآثار التي اكتشف في المدينة المحروقة أو المحترقة "شهر سوخته" كثيرة جداً ومن ضمنها أنواع عديدة من الحلي الفاخر مما يدل على ازدهار هذه الحرفة الهامة في الحضارة الإيرانية القديمة، فقد اكتشف علماء الآثار الكثير من الأحجار الثمينة ومن العقيق واللاجورد والفيروزة والرخام إلى جانب مصوغات من الذهب والفضة وسائر المعادن الراقية.

* أهم الأسباب التي أدت إلى احتراق المدينة

بعض الخبراء وعلماء الآثار يعتقدون بأنّ المهاجرين إلى هذه المدينة الأثرية وتغيير مجرى نهر "هيرمند" هما السبب في احتراقها بشكل مفاجئ، ويقول خبير الآثار السيد مهدي مرتضوي إن الشواهد تدل على أن المدينة لم تحترق بالكامل كما يتصور البعض، ولكن بعد اضمحلال حضارتها هاجر إليها بعض الناس ونظراً للجفاف والجدب الذي حل بها وتضاؤل مصادر المياه كانوا يحفرون الأرض ويستغلون بقاياها للتدفئة وطهي الطعام لتبقى آثار الاحتراق في كل بقعة منها، وهذا هو السبب الحقيقي في تسميتها بـ The Burnt City المدينة المحروقة. وهذا طبعاً مجرد رأي واحد، وهناك آراء أخرى يمكن للمتبع مطالعة تأريخ المدينة للتعرف عليها.

/ انتهى/