قد ينفع الحكّام المسلمين التعرف على نموذج "القدوة الحسنة"
لا يعني لي إن كان إبراهيم رئيسي سيّداً في النسب أو ليس سيداً، أو كان إيرانياً أو عراقياً أو حجازياً، أو كان شيعياً أو سنياً؛ إنما أطرحه هنا نموذجاً للحاكم وعالم الدين اللصيق بقيم الإسلام والتشيع والإنسانية؛ لكي يتعرف عليها حكام المسلمين ويعتبروا ويتعظوا؛ إن رغبوا.
د. علي المؤمن
لقد مات الحاكم وعالم الدين السيد إبراهيم رئيسي وهو يمتلك بيتاً مساحته (140) متراً فقط، ولم يكن يمتلك قطعة أرض ولا أموالاً ولا حسابات مصرفية، سوى حساب واحد يوضع فيه راتبه الشهري البالغ ما يعادل (1700) دولاراً فقط، بضمنها المخصصات، وكان حسابه المصرفي حين وفاته يحتوي نصف هذا المبلغ. كما كان يمتلك سيارة شخصية (سمند) إيرانية الصنع، لا غير.
وزوجته الأستاذة الجامعية تستلم راتباً يعادل (400) دولار شهرياً، وتساعد زوجها في مصاريف البيت. وكلا ابنتيه متزوجتان من شابين عاديين، وإحداهما تسكن شقة صغيرة مستأجرة. أما أمه فتسكن في بيت مساحته (70) متراً، ولا يعرف أحد في المنطقة أنها والدة رئيس الجمهورية؛ لأنها بلا حماية ولا سائق ولا خدم. وهكذا إخوته وأخواته؛ لم يكن يعرفهم أحد؛ لأنهم كباقي الناس، يعملون موظفين أو في السوق أو ربات بيوت.
هذا الرجل كان رئيساً للجمهورية في دولة كبيرة وغنية ومتقدمة، وقبلها رئيساً لسلطتها القضائية، ومسؤولاً رفيعاً فيها لمدة (45) سنة.
لم يكن إبراهيم رئيسي يصدع رؤوس الناس والمسؤولين بالحديث عن التدين والتمسك بالدين والتشيع والأخلاق، أو عن مكافحة الفساد والفشل والوساطات، وتطبيق مبادئ النزاهة والعدالة والخدمة، بل كان يخطط وينفذ ويشرف مباشرة على تطبيق هذه المفاهيم عملياً على نفسه وعلى فريقه قبل أن يطالب الناس بذلك، وكان يقود عمليات مكافحة مسارب الفساد والفشل، ويمارس تطبيق العدالة والنزاهة بنفسه، دون ادعاءات وضجيج ودعاية، وكان لديه عدواً لدوداً اسمه (الفساد). ولذلك؛ فبقدر ما كان المسؤولون يحبونه؛ فإنهم كانوا يخافونه ويحترسون من غضبه تجاه أي تقصير.
حتى معارضوه الشرسون كانوا يحترمونه، لأنه لم يكن يتدخل في المشاحنات السياسية وألاعيب الإقصاء والتسقيط، ولا يشغل نفسه في دهاليز التآمر السياسي والاصطفات الروتينية، من أجل التحضير للانتخابات اللاحقة؛ بل كان منصرفاً كلياً إلى العمل وتنفيذ برامج الحكومة على كل الصعد، ولذلك؛ كان يحدث لأول مرة أن يستجيب قادة المعارضة ورؤساء الأحزاب المعارضة إلى دعواته للتداول في شؤون البلاد؛ لأنهم كانوا يرون حسن أخلاقه السياسية، وجديته في العمل، وابتعاده عن المناورات. وقد تلمس المراقبون ذلك أيضاً من خلال بيانات قادة المعارضة بعد رحيله، وهم يعبرون عن الفاجعة والأسى والحزن الحقيقي، لأنهم فقدوا رمز الخدمة والنزاهة والأخلاق السياسية، كما قالوا.
وقلّما كان إبراهيم رئيسي يجلس في مكتبه، وقلما كان ينظّر ويتفلسف، بل كان كأي تنفيذي، يعمل بين الناس، في القرى والأرياف والمدن والصحاري، ويقضي حوائجهم بشكل مباشر، ويعرّض نفسه إلى مختلف الأخطار الطبيعية والفنية والأمنية، ويدفع وزراءه ومسؤولي الدولة للعمل في الميدان، وترك التنظير والجدل، والإقلال من الاجتماعات والأعمال المكتبية الروتينية.
وكان المراقبون، وأنا أحدهم، يتوقعون أن يتعرض الرجل إلى حادث طبيعي أو فني أو أمني، بسبب حركته الميدانية اليومية الدؤوبة، وكثرة التنقل والسفر الى الأماكن النائية والخطيرة. ولذلك؛ كان حادث وفاته متوقعاً جداً، خاصة وأن هناك سوابق له خلال زياراته لمناطق الكوارث الطبيعية، كالفيضانات والزلازل وشح المياه والتصحر.
لقد ذرف عشرات الملايين الدموع على فقدانه، وكثير منهم لم يكونوا على وئام مع النظام، وكانت دموعهم تخرج من قلوبهم، وهكذا بالنسبة للعشرة ملايين الذين شاركوا في تشييعه من عامة الناس؛ فقد كانوا يصرخون جزعاً، وكأنّ أحدهم فقد أمه أو أباه أو أخاه. ولم يأت هذا الحب من فراغ، أو لأن السيد إبراهيم كان رئيسهم أو لأنه مجرد عالم دين، بل لأنهم يعتبرونه واحداً منهم، وكانوا يتلمسون ذوبانه في خدمتهم.
هذا الحاكم الفقيه، السيد إبراهيم رئيسي؛ يصلح أن يكون قدوة في النزاهة والزهد والخدمة وحسن الإدارة والأخلاق السياسية والتقوى والعدالة لكل حاكم مسلم ولكل عالم دين مسلم، وخاصة الحكام والسياسيين وعلماء الدين الشيعة، وبالأخص من يلتزمون شرعاً بقيادة الولي الفقيه، والمتحالفون مع الجمهورية الإسلامية؛ فهم أولى بالاقتداء بزهد هذا الرجل ونزاهته وتقواه وأخلاقه وخدمته للناس، وتجاوزه العقل الفئوي الضيق. وعدم استغلاله المنصب من أجل الإثراء، والحصول على الأراضي والمشاريع الاقتصادية ونسب الأرباح، والتوسط للأقارب والأحباب.
والعاقبة للمتقين.
/انتهى/