المقاومة في منظور المصلحة القومية الإيرانية

المقاومة فی منظور المصلحة القومیة الإیرانیة

يعيد انتخاب رئيس جديد للجمهورية الإسلامية في إيران استحضار سؤال مقدار التغيير المحتمل في السياسة الخارجية الإيرانية، ومن ضمن ذلك بشكل أساسي دعمها لمشروع المقاومة في المنطقة.

 حسام مطر / أستاذ جامعي

وذلك رغم كون المسألة هي من القضايا العليا للدولة التي تُصاغ ضمن آليات مؤسّساتية معقّدة يشرف عليها الولي الفقيه ويكون رئيس الدولة طرفاً أساسياً فيها. السبب في استحضار هذا السؤال يعود إلى إشكالية يطرحها البعض مفادها أنّ هذا الدعم يضرّ بمصالح الأمن القومي الإيراني، والإصرار عليه سببه أنه ينبثق من الهوية الإيديولوجية والدينية للنظام الإسلامي فقط. فما دقّة ذلك؟.

في ما يلي جملة مقدّمات واستخلاصات موجزة تساعد على تطوير هذا النقاش. مع الإشارة إلى أنّ المقال ينظر إلى المصالح المتبادلة بين إيران وحلفائها في قوى المقاومة من منظور المصالح القومية الإيرانية (يمرّ بشكل عابر على المصالح الثورية) دون أن يعالج مكتسبات قوى المقاومة في المقابل.

مقدّمة أولى: يقرّ النظام الإسلامي أنّ دعم مشروع المقاومة يرتّب أعباءً على إيران لتأكيد الموقف المبدئي للنظام وصدقيّته والتزامه تجاه حلفائه وشعوب المنطقة وتجانسه مع مقولاته الدينية والإيديولوجية لمواجهة الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي. لكنْ لهذه المسائل انعكاس مباشر على مصالح إيران الاقتصادية والجيوسياسية كما سيظهر أدناه. فهذا الموقف، في مواجهة الهيمنة الأميركية، تعتمده دول كبرى ومتوسّطة صاعدة تطمح لعالم أكثر توازناً وعدالة، فكيف والحال أنّ إيران تقع في أكثر إقليم يتعرّض لسياسات الهيمنة والتسلّط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

مقدّمة ثانية: المصلحة القومية الأعلى لإيران هي أن تكون دولة موحّدة وآمنة ومستقرّة، وسيّدة داخلياً، ومستقلّة في سياستها الخارجية، وذات نفوذ إقليمي لدرء التهديدات وبناء الفرص وتنمية حضورها ومصالحها الحيوية بما يسمح لها أن تكون مركزاً إقليمياً ذا تأثير دولي.

مقدّمة ثالثة: المصالح القومية للدول الكبرى والمتوسّطة تشتمل على عناصر دينية وإيديولوجية ذات أبعاد وطنية وما فوق وطنية. فليس هناك قطيعة بين المصلحة القومية والأبعاد الثقافية للدولة، فالقوّة الثقافية للدولة هي قوّة ناعمة جاذبة تمثّل رصيداً كبيراً في قوّتها الكلّية. إنّ قدرة دولة على التعبير عن هويتها الثقافية والإيديولوجية والاعتزاز بها هي من مصلحتها القومية. إنّ المصالح الثورية والقومية لإيران متبادلة، فالأولويات الثورية وكيفية السعي إلى تحقيقها ترتبط بسياقات جيوسياسية متغيّرة عدّة، وتعريف المصالح القومية لا ينفصل عن هوية النظام وثقافة الدولة وتاريخها.

مقدّمة رابعة: الولايات المتحدة كقوّة هيمنة تجد في إيران تهديداً خطيراً في إقليم حيوي. فمنظومة الهيمنة معادية لكلّ دولة مستقلّة وفاعلة وتسعى إلى استتباعها وفقاً لشروطها ولأغراضها وقد يستدعي ذلك أحياناً إضعافها أو تفكيكها. في الإستراتيجية الأميركية، إمّا تكون إيران دولة مستتبعة وظيفية كما كانت في عهد الشاه وإمّا ينبغي تحطيمها. وعليه إيران في موقف دفاعي تتبنّى بموجبه سياسات هجومية.

مقدّمة خامسة: علاقة إيران بقوى المقاومة تستند إلى مقوّمات دينية وإيديولوجية وجيوسياسية بنسب مختلفة حسب كلّ حالة. هذه العلاقة التحالفية لها ركن أساسي يتمثّل في مصالح مادّية مشتركة على صعد الأمن والاقتصاد والسياسة. وبناء الأحلاف والشراكات ممارسةٌ أصيلة في العلاقات الدولية، وكثيراً ما تداعت قوى كبرى بفعل فشلها في بناء أحلاف موازية لخصومها فتعرّضت للاستنزاف والعزلة ثم السقوط. يعكس دعم إيران لقوى المقاومة مصالح إيران الثورة وإيران الجمهورية والقوّة الإقليمية.

وعليه، يمكن إيراد عدد من الشواهد حول المصالح القومية المتحقّقة من دعم إيران لقوى المقاومة عسكرياً وسياسياً ومالياً:

- وحدة إيران الداخلية: بدعم وحدة العراق وسوريا بالتعاون مع حكومتي البلدين وقوى المقاومة، أحبطت إيران خطر امتداد موجة التقسيم إلى مناطقها الحدودية. كما ترتدع دول عدّة عن دعم حركات انفصالية داخل إيران خشية من قدرة إيران، مباشرة أو عبر حلفائها، على القيام بإجراءات رادعة. ويسهم موقف الجمهورية الداعم لقوى المقاومة العربية والإسلامية في إيجاد لاصق إضافي للتنوّعات القومية والمذهبية داخلها. كما أنّ صورة الجمهورية المقتدرة في المنطقة تحصّن الاعتزاز بالهوية الوطنية الإيرانية. إنّ إسرائيل الغالبة في المنطقة لن ترضى إلا بتقسيم الدول الأساسية في المنطقة كما سعت في المشرق العربي والقرن الأفريقي.

- سلامة الأراضي الإيرانية: تمكنّت إيران بالشراكة مع قوى المقاومة من كسر «داعش» عند حدودها وحالت دون إسقاطها للعراق (نسخة صدّامية جديدة) أو استخدامه قاعدة مستدامة للأعمال الإرهابية ضدّها. وقبْل ذلك وبعده، نجحت إيران في بناء ردع عسكري موثوق وفعّال بوجه أميركا وكيان العدوّ من خلال شبكة حلفائها من قوى المقاومة القادرة على شنّ هجمات لا متماثلة من جغرافيا ملاصقة للعدو (الدفاع المتقدّم). وهذا، في المقابل، يتيح لقوى المقاومة تكريس معادلة «الحرب الإقليمية» -وإيران جزء منها- كجزء من نظام الردع الخاصّ بها.

- السيادة الداخلية: وهنا تحضر بشكل أساسي قدرة إيران على إدارة مواردها وبناء القوّة الوطنية. المثال الأبرز هو البرنامج النووي السلمي حيث لم يكن لإيران فرض إرادتها لو لَم تكن ذات اقتدار عسكري كشف جبهة الكيان الداخلية ومصالح واشنطن وقواعدها العسكرية أمام القدرات النارية الهائلة لقوى المقاومة. ويقرّ الصهاينة أنّ غرقهم في حروب استنزاف ضدّ قوى المقاومة منح إيران الوقت الكافي لإكمال مشروعها النووي وصعودها الإقليمي.

الحضور الإقليمي: سعت واشنطن إلى تحويل كيان العدوّ إلى مركز الثقل الإقليمي واستتباع القوى الإقليمية الأخرى له، وهذا مكوّن رئيسي في رؤية واشنطن لنظام إقليمي موجّه لإسقاط إيران. نجح محور المقاومة في إحباط الاحتلال الأميركي للعراق ومنعه من إقامة رأس جسر في الخاصرة الإيرانية وفي سلب كيان العدو قدرةَ المبادرة الإستراتيجية وتسيّد المنطقة. وأدّى استنزاف واشنطن إلى تراجع الثقة بها ما دفع دولاً عدّة إلى تحييد نفسها عن المواجهة مع إيران. وأسهمت نجاحات المحور في أن يكون لإيران عمق في غرب آسيا على شكل بنية تحالفية وفّرت لها أيضاً تأثيراً حاسماً على ممراته المائية الحيوية. فإيران اليوم، بالمقارنة مع كل جوارها الآسيوي، هامشها الإقليمي الأهم يقع في غرب آسيا.

- تنمية الفرص الاقتصادية: نجحت العقوبات الأميركية في حرمان إيران من الاستثمارات والأسواق، إلّا أنّ وجودها في مشروع جيوسياسي مستقلّ من خلال مشروع المقاومة مكّنها من أن تكون شريكاً ضرورياً للمشاريع الاقتصادية الكبرى للقوى الصاعدة من الصين وروسيا والهند، وكذلك نجحت في فرض تراجعات أميركية جزئية في مسائل مرتبطة بالعقوبات والحظر واحتجاز الأموال. مع الإشارة إلى أنّ الإمام الخامنئي يصرّ على كون العوامل الداخلية الإيرانية لها حصّة وازنة في التحدّيات الاقتصادية الإيرانية وليس العقوبات. ولذلك، ركّزت حكومة السيد رئيسي على الإصلاح الداخلي وعلى نسج شراكات مع الدول المجاورة والعمق الآسيوي حيث مراكز الثقل الاقتصادية. إنّ دعم قوى المقاومة يفرض على إيران عبئاً كبيراً ناتجاً عن العقوبات ولكنه يسهم في سيادتها على مواردها وعلى توفير نفوذ جيو-اقتصادي لها ويؤهّلها مستقبلاً، أكثر من الدول المستتبعة لواشنطن، لتكون شريكة في النظم الاقتصادية الجديدة الناشئة.

- المكانة الدولية: تولّد نجاحات محور المقاومة الذي تحلّ إيران في مركزه، قدرة تأثير عالية لطهران في إقليم مفتاحي للنظام الدولي -ولا سيما أنه يمرّ بمرحلة انتقالية أسهم المحور في تسريعها- ما يتيح لها شركاء دوليين صاعدين طامحين لنظام دولي مختلف. وبذلك فرضت إيران على القوى الغربية الاستماع لصوتها وأن تأخذ مصالحها في الحسبان. هذا كلّه أسبغ على الجمهورية الإسلامية صورة المهابة كدولة عالمثالثية وإسلامية صاعدة.
من دون مشروع المقاومة، كان على إيران، لتبقى قوّة إقليمية مستقلّة وسيّدة وموحّدة، أن تتحمّل أعباء مالية واقتصادية هائلة لبناء قدرات عسكرية وأمنية تقليدية وخوض حروب متواصلة مرهقة من دون عمق إقليمي، وكلّ ذلك سيتجاوز أضعاف ما تحتمله إيران في دعمها لحلفائها في محور المقاومة. عدا عن أنّ هذا الحلف ناظر إلى المستقبل وهو ينجح في إحداث التحوّلات وتقاس جدواه الكلّية ضمن مساره المستقبلي. أمّا الظن أنّ مشكلة الغرب مع إيران والعقوبات مرتبطة بدعمها لمشروع المقاومة، فهو ظنٌّ يتغافل أنّ هذا الدعم هو فرع من موقف إيران الدفاعي عن استقلالها ودورها وهويتها ومصالحها. قيمة الموقف الإيراني أنه متبصّر وناظر للمستقبل ومندمج مع مصالح شعوب المنطقة وينطلق من رؤية وإرادة مستقلة. وهذا المكوّن المصلحي في دعم إيران لقوى المقاومة يجعل هذه الشراكة أمتن وأكثر تجذّراً وأقلّ تأثّراً بعملية تداول السلطة في طهران. ولحلفاء إيران في المقاومة مكوّنات أيديولوجية ومصلحية، فهم ناظرون أولاً إلى مصالح مرتبطة بتهديدات مباشرة من واشنطن وتل أبيب وتوابع إرهابية، ولكنهم يرون أنّ هذه مصالح متكاملة مع إيران كمشروع استقلالي سياسياً وحضارياً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي وكالة تسنيم الدولية للأنباء وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

/انتهى/

الأكثر قراءة الأخبار الشرق الأوسط
أهم الأخبار الشرق الأوسط
عناوين مختارة