المثقف العراقي في إيران ومستويات التأثر بالفكر الإيراني المعاصر

ظل الأذكياء من المفكرين والمثقفين وعلماء الدين العراقيين والعرب الذين أقاموا في إيران ودرسوا فيها خلال العقود الأربعة ونصف الماضية؛ ظلوا قريبين من المرجل الفكري الإيراني المستعر والمنتج، سواء في جزئه الديني الأصولي أو جزئه الديني الحداثي أو جزئه العلماني والليبرالي المتمرد على الدين.

وتأثروا بنتاجاته المنهجية والفكرية والثقافية، وترجموا كثيراً منها إلى اللغة العربية، وبنوا أغلب قواعد تفكيرهم ورؤاهم في إطار هذه النتاجات، ثم طرحوها في مؤلفاتهم ودراساتهم ومحاضراتهم، وخاصة في مجالات علم الكلام الجديد وفلسفة الدين وفلسفة الفقه والفقه السياسي وتقنين الشريعة والتجديد الفكري والفقهي.

**د. علي المؤمن

التيارات الفكرية الإيرانية المؤثرة في المثقف العراقي

لعل أكثر المفكرين وعلماء الدين الإيرانيين الذين طبعوا أغلب أفكار العراقيين والعرب في إيران بطابعهم الفكري: الإمام الخميني، علي شريعتي، مرتضى المطهري، داريوش شايگان، مصباح يزدي، جوادي آملي، جعفر سبحاني، أحد قراملكي، عبد الكريم سروش، مصطفى ملكيان، محمد رضا حكيمي، حسين نصر، عبد الرضا داوري، عميد زنجاني، محمد جواد لاريجاني، محمد مجتهد شبستري، محمد خاتمي، محسن كديور وغيرهم. وهم يمثلون تيارات فكرية مختلفة، تبدأ بأقصى يمين التيار الأصولي، وتنتهي بأقصى يسار التيار العلماني المتمرد على الدين. وجميعهم ينشطون داخل إيران أو تطبع كتبهم داخل إيران.

ونجد أغلب المثقفين العراقيين الذين عادوا من إيران إلى العراق بعد العام 2003؛ بدأوا بطرح أفكارهم ورؤاهم الثقافية والسياسية، وكأنّ كثيراً منها ترجمة عن النتاج الفكري الإيراني الذي صدر في عقود السبعينات والثمانيات والتسعينات من القرن الماضي، وإلى ما بعد نهاية الألفية الثانية، مستثمرين إتقانهم اللغة الفارسية ومتابعتهم الدائمة للجدل الفكري في إيران، واستحالوا وفقاً لذلك إسلاميين أصوليين، أو إسلاميين إصلاحيين تجديديين، أو علمانيين ليبراليين متصالحين مع الدين، أو متمردين على الدين والشريعة والموروث، أو ليبراليين متدينين عرفانيين، أو مندكين بفكر ولاية الفقيه، أو رافضين لها، بل حتى الذين مالوا إلى الفكر السني أو تطرفوا في التمسك بالمنهج الأخباري الشيعي؛ تعود أغلب أصولهم الفكرية والثقافية إلى المناخ الفكري والفلسفي الإيراني.

ويمكن أن نستثني من هذا التأثر العميق، من انتقل إلى إيران وكان متقدماً في السن، وقد اكتمل بناؤه الفكري والعلمي والثقافي في العراق وغير العراق، سواء في أجواء الحوزة العلمية أو أجواء الحركة الإسلامية العراقية، وظل متمسكاً تلقائياً بثقافته التقليدية. والملاحظ أن هؤلاء لم يتطوروا منهجياً وفكرياً غالباً، على العكس من الذين كانوا على تماس مع المرجل الفكري الإيراني، وتأثروا كثيراً بنزاعاته وجدالياته ونتاجاته، وتماهوا معها غالباً؛ فقد تطوروا فكرياً وعلمياً وثقافياً تطوراً كبيراً ونوعياً.

ثلاثة أجيال وثلاث حقب

ويمكن تقسيم التوجهات الفكرية والثقافية لهؤلاء العراقيين والعرب المتأثرين بالفكر الإيراني المعاصر، على أساس ثلاث حقب زمنية أساسية، وهي عقد السبعينات وعقد الثمانينات وعقد التسعينات من القرن الماضي؛ إذ كان للتأثر والتماهي علاقة مباشرة بطبيعة الموضوعات التي تطرح في الساحة الفكرية الإيرانية في كل حقبة، والرموز الفكرية التي تظهر وتبرز خلالها، وعادة ما يكون طرح الموضوعات الفكرية وبروز مفكريها في الساحة الإيرانية متأثراً بالمشهد السياسي، وبالتالي؛ تكون علاقة الفكر والسياسة علاقة تأثير وتأثر، وهو ما ينعكس تلقائياً على النخبة الفكرية والثقافية العراقية في إيران.

وقد كان عقد السبعينات من القرن الماضي عقداً تقليدياً، وأفرز علماء دين عراقيين وعرب تقليديين غالباً، ولم يشهد ظهور مثقفين وباحثين عراقيين غير معممين إلّا نادراً، وهو ما ينسجم مع طبيعة الحضور العراقي في إيران، والذي كان يتمثل غالباً في العراقيين (المسفرين) من ذوي الأصول الإيرانية، ومن برز منهم كان من علماء الدين، وقد تحول هؤلاء إلى مراجع دين وفقهاء وباحثين دينيين تقليديين متمسكين غالبا بمنهج الحوزة النجفية ومنتمين إليها وإلى مرجعياتها، باستثناء علماء الدين الذين كانوا مرتبطين بالسيد محمد باقر الصدر ومدرسته التغييرية؛ فقد تميزوا عن غيرهم بالنزعة التجديدية الإصلاحية.

في حين كان عقد الثمانينات عقداً منتجاً من الناحيتين الكمية والنوعية، بالنسبة للوسط الثقافي والعلمي العراقي في إيران، وتميز بأنه عقد حركي وتجديدي، وهو أهم الحقب الزمنية، بالنظر للحجم الكبير للحضور العراقي في إيران؛ حيث شهد هذا العقد هجرة وتهجير الآلاف من علماء الدين والمثقفين الحركيين العراقيين إلى إيران، وكانوا غالباً يحظون ببنية تحتية ثقافية إسلامية حصينة، وينتمي كثير منهم إلى مدرسة السيد محمد باقر الصدر التغييرية، وفي حين كانت أغلبيتهم منخرطة في العمل السياسي المعارض؛ فإن جزءاً منهم كانوا يجمعون بين العمل السياسي والعمل الثقافي والفكري والعلمي، بينما تفرغ آخرون إلى العمل البحثي والفكري والعلمي، بمناهجه الحديثة، سواء في إطار الحوزة العلمية القمية التي كانت تشهد انفتاحاً ملحوظاً على المناهج الحديثة والمأسسة والجدل الفكري المتأثر بمقولات التجديد والإصلاح الفكري والمنهجي والديني، أو في إطار الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، أو المؤسسات البحثية والمجلات والصحف. وبالتالي؛ أفرز هذا العقد أبرز الأسماء الفقهية والفكرية والعلمية والبحثية المشهورة اليوم في العراق.

أما عقد التسعينات؛ فقد تميز بهجرة آلاف الشباب العراقيين إلى إيران، وخاصة بعد انتفاضة شعبان 1991، وهو جيل مختلف غالباً في تكوينه النفسي والثقافي والسياسي والاجتماعي عن الجيل الحركي التأصيلي الذي هاجر إلى إيران في الثمانينات. ولذلك؛ برزت في أوساط المثقفين العراقيين المنتمين إلى عقد التسعينات، ظواهر تتعارض مع السائد العقدي والفكري الإسلامي في الوسط العراقي المنتمي لعقد الثمانينات؛ ففضلاً عن الاختلاف الذي ذكرناه في التكوين النفسي والثقافي والاجتماعي؛ فإن شباب التسعينات عاشوا أجواء الخلاف الفكري- السياسي الحاد في إيران، وخاصة الفترة التي انفرد فيها التيار الإصلاحي بالسلطة في إيران، ونشر ثقافته الإسلامية الليبرالية الوطنية بشكل واسع ومكثف، وهو مشهد كان غائباً في عقد الثمانينات، الذي كانت فيه الأوساط الثقافية والفكرية الإيرانية تعيش أجواء تثبيت دعائم الدولة الجديدة وركائزها الفقهية السياسية، وحرب الثمان سنوات المستعرة.

ولذلك؛ فقد انعكست المناخات السياسية والثقافية والفكرية الإيرانية التي كان يقودها التيار الإصلاحي والتيار الليبرالي، انعكست على شباب جيل التسعينات العراقي؛ فذاب كثير منهم في علي شريعتي وعبد الكريم سروش وغيرهما من الأسماء المعارضة للسائد الإسلامي الشيعي، وانفتحوا على أسماء فكرية عربية وغربية أكثر علمانية، من خلال الكتب التي لم يكونوا يألفونها في العراق، وباتوا متعاطفين مع الثقافة الليبرالية الجديدة أو منتمين إليها، إضافة إلى تماهيهم مع أفكار التيار الإصلاحي الإيراني الوطني. على العكس من جيل الثمانينات الذي ظل يتعاطف مع التيار الإيراني الأصولي الأممي، ولا ينسجم مع أفكار شريعتي وسروش، ومع سياسات التيار الإصلاحي والتيار الوطني الإيراني. وكان مُلاحظاً أن أغلب جيل التسعينات أتقن اللغة الفارسية بسرعة، وأفضل من جيل الثمانينات، الذي كان أغلبه منشغلاً بشدة في العمل المعارض ومنخرطاً في مؤسساته وأحزابه.

تأثر المثقف العراقي بين السياسة والفكر

كان دخول أجيال المثقفين العراقيين في إيران على خط الجدل والحوار والصراع بين التيارات الفكرية الإيرانية، يقوّي بنيتهم الفكرية بشدة، ويعزز قدراتهم على الغوص في عمق المناهج والأفكار الجديدة، ويدفعهم لمزيد المطالعة والبحث، سواء كان دخولاً عميقاً أو سطحياً، وفق المستوى الثقافي والفكري للمتجادلين. وهي فرصة لم يكن لها نظير، ولم يكن لتحدث لهذه الفئة من الأذكياء العراقيين لو كانوا يعيشون في بلد آخر غير إيران.

ولعل أهم النوافذ الفكرية والثقافية التي كان يطل عبرها الباحث العراقي في إيران ويطرح من خلالها أفكاره ورؤاه، هي المراكز الثقافية ومراكز الأبحاث العراقية، وهي محدودة في إمكانياتها وآفاقها، وكذلك المؤتمرات الفكرية الإيرانية وقناة سحر التلفزيونية والمجلات والصحف. ويمكن القول إن أهم دوريتين كانتا تمثلان نافذتين فكريتين بحثيتين مقروءتين يكتب فيهما الباحثون العراقيون، هما: مجلة التوحيد التي أسسها الشيخ محمد علي التسخيري، وترأس تحريرها علي المؤمن، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة التي ترأس تحريرها عبد الجبار الرفاعي. وأعقبهما صدور مجلات بحثية عربية أخرى. أما باقي الدوريات العربية التي صدرت في إيران، وهي كثيرة؛ فكانت غالباً سياسية أو دينية، ولم تكن تعنى بالفكر المعاصر وقضايا التجديد، عدا عن بعض الدوريات البحثية.

وفضلاً عن تأثر المثقف والباحث العراقي في إيران بالمناخ الفكري الإيراني المتحرك، ودراسته في الجامعات والحوزات، ونشره المقالات والبحوث في المجلات العربية في إيران، وعلاقاته بالمفكرين وعلماء الدين والمثقفين الإيرانيين، سواء العلاقات المباشرة، أو من خلال مطالعة كتبهم وبحوثهم باللغة الفارسية أو المترجمة إلى العربية؛ فإن معرض طهران الدولي للكتاب، كان فرصة استثنائية؛ فتحت أبواباً جديدة للمثقف والباحث العراقي للتعرف على آخر الأفكار والمناهج؛ فقد كانت الكتب العربية أو المترجمة إلى العربية، خاصة المطبوعة في دمشق والقاهرة وبيروت، تُعرض بكل ألوانها الفكرية، دون رقابة حقيقية، من الكتب الدينية الأصولية، إلى التجديدية الملتزمة، إلى المنفلتة إلى المتمردة إلى العلمانية، وصولاً إلى الإلحادية. ومن خلالها تعرف المثقف والباحث العراقي على "كارل بوبر" و"جون هيغ" و"هوسلر" و"ميشيل فوكو" و"هابرماس" و"هايدغر" و"شتراوس" و"التوسير" و"البير كامو" وحسن حنفي وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وبرهان غليون ومحمد أرگون وغيرهم من المفكرين والفلاسفة الغربيين والعرب.

وظهرت حينها موجة جديدة لدى المثقفين والباحثين العراقيين، وتحديداً جيلي الثمانينات والتسعينات، وهي الاطلاع على الفكر غير الإيراني، والمقارنة بينه وبين الفكر الإيراني، وهي موجة ساهمت في تكريس الحضور الفكري والعمق المعرفي للمثقف العراقي المقيم في إيران.

وبات كثيرٌ من جيل التسعينات يتآلف ويتحالف فكرياً وثقافياً مع هذه الأسماء الجديدة، بما يعزز تأثره وتماهيه بالتيار الليبرالي الإيراني، ولم يعد يعنيه غالباً المفكرون الذين كوّنوا الشخصية الثقافية العراقية لجيل الثمانينات، كالصدر ومطهري ومغنية والمودودي وسيد قطب ومحمد قطب ومالك بن نبي وفضل الله وشمس الدين ومصباح يزدي والآصفي والتسخيري والعسكري.

وللأمانة التاريخية؛ أقول بأن المثقفين والباحثين وعلماء الدين العائدين من إيران، والذين منحهم الوسط الثقافي داخل العراق توصيف (مفكر)، وهو توصيف عن جدارة واستحقاق أحياناً؛ لم يكونوا سيحظون به لو كانوا قد بقوا في إيران، أو غادروا إلى أوروبا؛ لأن منح توصيف (مفكر) أو (مجتهد) أو (باحث) أو (مثقف)؛ صعب جداً في إيران، حتى للإيرانيين أنفسهم؛ فكيف بالمثقف العراقي الذي يعاني من قلة فرص التعبير، تبعاً لحاجز اللغة. غير أن هؤلاء المثقفين العراقيين العائدين من إيران، تألقوا تألقاً كبيراً في داخل العراق. ووجدوا بيئة حاضنة دافئة، وفرصاً كبيرة للتعبير، من خلال الجامعات ومراكز البحوث ووسائل الإعلام والمنتديات الثقافية، فضلاً عن نشر مؤلفاتهم وتوزيعها بكثافة في المكتبات ومعارض الكتب داخل العراق وخارجه.

وقد ظل جزء من المتأثرين العراقيين بالفكر الإيراني المعاصر، أميناً للعلم ولقواعد منهجه وأفكاره، ولم ينسب هذه المناهج والأفكار لنفسه، ولم يزعم أنه وراء التأسيس والتقعيد والتأصيل والتجديد، في حين نسبها آخرون لأنفسهم، مستثمرين عدم معرفة القارئ العراقي والعربي باللغة الفارسية وعدم اطلاعه على النتاج الفكري الإيراني المعاصر، وبات كثير منهم مشهوراً في الوسط العلمي والثقافي العراقي والعربي.

وسنتطرق في مقالات قادمة إلى أفكار ونتاجات ثمانية نماذج من المفكرين وعلماء الدين والباحثين المتأثرين بالفكر الإيراني في تلاوينه المختلفة، ومساحات التأثر، وهم: كمال الحيدري، عمار أبو رغيف، عبد الجبار الرفاعي، علي المؤمن، جواد كسار، ماجد الغرباوي، أحمد القبانجي وأحمد الكاتب.

______________________

**هذه المقال ومقالات أخرى قادمة، هي خلاصة مكثفة لفصول من كتابي القادم ((موصولاً بين الدعوة والدولة))، وهو كتاب مشاهدات خلال (50) عاماً.

ملاحظة: إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي وكالة تسنيم الدولية للأنباء وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

/انتهى/