"الغموض الاستراتيجي" في الرد الإيراني.. "الحتمي"!

تأخرت إيران في الرد علي الكيان الإسرائيلي علي خلفية انتهاك سيادتها واغتيال ضيفها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية أثناء مشاركته في مراسم التنصيب وتأدية الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان اليمين الدستورية، وهذا الأمر يطرح الكثير من الأسئلة خصوصاً غداة "عملية الأربعين" التي نفذّها حزب الله انتقاماً لدماء قائده الميداني فؤاد شكر.

محمد صالح صدقيان

بعد 31 يوليو/تموز الفائت، وجدت طهران نفسها محشورة باعتبارات سياسية وأمنية وجيواستراتيجية كثيرة. فقرار الرد الإيراني قد تم اتخاذه بعد ساعات من عملية اغتيال إسماعيل هنية، على قاعدة أن يكون "عقابياً" وليس "تأديبياً" كما عبّرت عن ذلك القيادة الإيرانية، وليس كما حدث في ليل 13- 14 نيسان/أبريل الماضي، عندما نفّذت إيران عملية "الوعد الصادق" علي خلفية الغارة التي نفذتها إسرائيل ضد السفارة الإيرانية بدمشق.

لم يأتِ القرار الإيراني وليد لحظة انفعال بل نتاج قراءة إيرانية لمجمل التطورات في المنطقة وتحديداً ما يجري في قطاع غزة منذ أحد عشر شهراً. فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متورط في وحل غزة وفشل في تحقيق أهدافه الإستراتيجية التي حدّدها منذ اللحظة الأولى لبدء عدوانه غير المسبوق على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

أي أنه لم يتمكن من سحق حماس وباقي فصائل المقاومة والقضاء عليها، إضافة إلي فشله في تحقيق هدفه الإستراتيجي الأساس الذي من أجله قرر اجتياح القطاع، وهو تحرير الأسرى الإسرائيليين الموجودين لدي حركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية. في سياق هذه التطورات، كان نتنياهو يفكر بآلية للخروج من المستنقع عبر ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، وتحديداً من خلال "استدراج" إيران إلى حرب مباشرة مع الكيان، وهو يعلم جيداً، بناءً علي معطيات الميدان، أن الولايات المتحدة لن تكون بعيدة عن أي حرب أو هجوم يتعرض له الكيان، وبذلك يستطيع أيضا "استدراج" الجيش الأمريكي للدخول في مواجهة مباشرة مع إيران وحلفائها في "محور المقاومة" خصوصاً وأن مؤشرات الميدان تحدثت عن رغبة إيرانية في تنفيذ هجوم "مزدوج" أو "مركب"، كما قالت مصادر إيرانية من دون أن تخوض أكثر في التفاصيل؛ لكن ثمة معطيات تشي بأن فصائل "المحور" ستكون منخرطة في الرد على الكيان، كلٌ حسب معطياته وظروفه ومحدداته.

فإيران تريد الانتقام لسيادتها؛ وحزب الله يحسب حساباته للرد علي اغتيال القائد الميداني فؤاد شكر؛ فيما توعدت حركة أنصار الله اليمنية الكيان بالرد علي هجوم ميناء الحديدة. غير أن الرسائل الأمريكية التي وصلت إلى طهران، غداة اغتيال هنية، كانت متعددة وعبر وسائط وقنوات تعتمدها واشنطن في هكذا حالات وأزمات. القاسم المشترك في كل هذه الرسائل تمثل في دعوة طهران "إلى ضبط النفس" والتشديد على عدم وجود أية رغبة أمريكية في اندلاع حرب كبرى في المنطقة. بالمقابل، كان الرد الإيراني واضحاً هذه المرة وهو أن إيران لا يُمكن أن تُمرّر جريمة كتلك التي وقعت في قلب العاصمة طهران؛ ربما تتريث لكن لا يمكن أن تسكت أو أن تركن للوعود الأمريكية، فلطالما وعدت واشنطن بعدم توسيع رقعة الحرب أو بتنفيذ وقف النار في غزة لكن وبرغم عناد فريق الحرب الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، كانت الولايات المتحدة تواصل مد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة والذخائر للمضي أكثر فأكثر في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني على أرض غزة، مثلما كانت تحمي الكيان في المحافل الدولية كمجلس الأمن أو عبر الضغط على محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية لمنع اتخاذ قرارات تمس مصالح إسرائيل وحربها.

بعد 31 يوليو/تموز جدّدت واشنطن رغبتها بممارسة ضغط سياسي جاد لوقف إطلاق النار في غزة وأبلغت ذلك إلى طهران عبر وسيط محدد. ولما كانت عملية وقف إطلاق النار في غزة ووقف قتل المدنيين والنساء والأطفال تُشكّل هدفاً استراتيجياً لطهران جاهدت من أجله منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فإنها قرّرت افساح المجال أمام الجهود الرامية لوقف إطلاق النار بوساطة قطرية – مصرية، خصوصاً وأن وزيري خارجية قطر ومصر حرصا علي وضع طهران في إطار المباحثات التي جرت سواء في الدوحة أم في القاهرة. إضافة إلي كل هذه التطورات؛ كانت طهران أمام استحقاق داخلي، وهو انتقال السلطة للرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. فإيران في 31 يوليو/تموز لم تكن تملك حكومة ولا رئيساً؛ وبالتالي كانت مقبلة علي تشكيل حكومة جديدة. ففي نهاية المطاف يجب أن تُساهم الحكومة الجديدة في صنع القرار وأن تكون في صلب مواجهة أية تداعيات محتملة بعد الرد الإيراني؛ علي الرغم من جاهزية الجهات العسكرية لتنفيذ الرد الذي قالت إنه تم وضعه علي الطاولة بعد تحديد الأهداف والحجم والمستوي إضافة إلي تخطيط الهجوم وتحديد الآليات التنفيذية.

في ظل هذه التطورات، وجدت طهران نفسها محشورة في زاوية صعبة وحرجة في آن واحد وفق معادلة متعددة الأبعاد. فهي تريد الرد لكنها لا تريد توسيع نطاق الحرب. وهي تريد الرد لكنها لا تريد أن يصب ردها في مصلحة نتنياهو وهي تريد الرد لكنها لا تريد انقاذ الكيان ونتنياهو من مستنقع غزة. إضافة إلي أنها تريد وقف إطلاق النار في غزة بأي ثمن كان من أجل إنقاذ المدنيين والأطفال والنساء من القتل المفتوح منذ 11 شهراً.

في ظل هذه القراءة، وبمعزل عن التوقيت الذي لا يتطرق إليه أحد، ما زالت طهران تتحدث وبالفم الملآن عن "حتمية الرد" الذي "سيكون حاسماً وقوياً ورادعاً ومن دون تمكين الكيان من تنفيذ رد مضاد". بهذا المعنى، تتحدث طهران حالياً عن "غموض استراتيجي" ربما تحدثنا عنه بالتفصيل لكن حالة الهلع التي يواجهها الكيان راهناً ربما كانت أقوي من أي رد إيراني ميداني يُمكن أن يستفيد منه جيش الكيان.

/انتهى/