في يوم تكريم الشاعر عطار النيشابوري.. شمسٌ بين الظلال

فی یوم تکریم الشاعر عطار النیشابوری.. شمسٌ بین الظلال

عطار النيشابوري، الذي وصفه جلال الدين الرومي بأنه "روح" اللغة والثقافة الإيرانية، هو شاعرٌ استطاع أن يمدّ مائدةً من المعاني مستلهمة من التراث الماضي، فتغذّت منها أجيال من الشعراء والمفكرين على مدى قرون، ولا تزال آثاره موضع اهتمام وبحث بين أهل الأدب والمعرفة.

وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن في سماء الأدب الفارسي نجوماً لامعة، كلٌّ منها بمفرده يكفي ليكون مصدر فخرٍ لأمةٍ بأكملها. وكان عطار النيشابوري، الذي يصفه مولانا جلال الدين الرومي بأنه "روح اللغة والثقافة الإيرانية"، أحد أبرز تلك النجوم؛ شاعرٌ استلهم من تراث من سبقه ليُنشئ مأدبة معنوية أغنت الشعر الفارسي وجعلته مقصداً لأهل الفن والفكر لقرون بعده.

من هو عطار النيشابوري؟

تحيط بسيرة عطار النيشابوري هالة من الغموض والأساطير. فقد أسهم وجوده في ميدان الأدب العرفاني من جهة، ووفاته إثر الغزو المغولي من جهة أخرى، في نسج العديد من القصص حول حياته وشخصيته، ما يستوجب التمحيص والتثبت في كل رواية. وقد أورد بديع‌ الزمان فروزانفر اسمه وكنيته وألقابه على النحو التالي: اسمه محمد، وكنيته أبو حامد، ولقبه فريد الدين، وتخَلّصه (اسمه الأدبي) عطار، وقد استخدم أحياناً اسم "فريد" كتخَلّص أيضاً. غير أن شهرته باسم "عطار" منذ القرن السابع الهجري قد طغت على سائر أسمائه وألقابه.

ورغم وفرة الدراسات حوله، فإن تاريخ ولادة ووفاة عطار لا يزال محل خلاف. فوجود الأساطير حول حياته يصعّب الوصول إلى تواريخ دقيقة. فعلى سبيل المثال، تذكر بعض المصادر أن عمره بلغ 114 عاماً، أي بعدد سور القرآن الكريم. لكن محمد رضا شفيعي كدكني، في مقدمة تحقيقه لكتاب منطق الطير، يرى أن ولادته كانت عام 553هـ / 1158م ووفاته عام 627هـ / 1230م، مما يعني أنه عاش عمراً طبيعياً يقارب 74 عاماً.

كما أن حياة عطار النيشابوري محاطة بهالة من الغموض، فإن صحة نسب العديد من الأعمال إليه كانت ولا تزال محل جدل بين الباحثين. فبعض المصادر تذكر أن عدد مؤلفاته يبلغ 114 عملاً، أي بعدد سور القرآن الكريم، وهي إشارة مستندة إلى قول غير موثوق يدّعي أن عطار عاش 114 عاماً، وكتب عن كل عام من حياته كتاباً.

أما دولتشاه السمرقندي، فقد أورد في تذكرة الشعرا أن لعطار أربعين مؤلفاً، لكنه لا يعترف إلا بصحة اثني عشر منها، ويعتبر الباقي نسخاً مهملة ومجهولة.

شمسٌ بين الظلال

تشير أبحاث الدكتور محمد رضا شفيعي كدكني إلى أن الأعمال التي يمكن نسبتها إلى عطار بشكل قاطع ومؤكد لا تتجاوز سبعة، وهي: تذكرة الأولياء، ديوان الأشعار، مختار نامه، إلهي‌ نامه، مصيبت‌ نامه، وأسرار نامه.

ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى نسبة عدد كبير من الآثار إلى عطار عبر التاريخ، هو تعدد الشعراء الذين استخدموا لقب "عطار" في مختلف العصور. فقد كتب الموسوعة الإسلامية الكبرى عن هذا الموضوع قائلة: "على امتداد 1200 سنة من تاريخ الشعر الفارسي الدري، وُجد عدد كبير من الشعراء الذين اتخذوا من 'عطار' تخلصاً لهم". ويعود ظهور هذا التخلص إلى عهد آدم الشعراء الفارسيين، رودكي السمرقندي. ومن بين هؤلاء الشعراء: أبو جعفر محمد بن علي العطار، المعاصر لرودكي؛ عطار آخر نظم خسرو نامه؛ روح‌ الدين عطار، من شعراء القرن الثامن الهجري، والمعاصر لخواجو الكرماني؛ وعدد آخر من الشعراء الذين حملوا هذا التخلّص منذ القرن التاسع الهجري وما بعده.

ويُرجَّح أن غالبية الآثار المنسوبة إلى عطار في الواقع تعود إلى هؤلاء الشعراء الذين عاشوا بعد القرن التاسع الهجري. ومنهم شاعر يُدعى عطار التوني، عاش في مدينة مشهد بعد نحو مئتي عام من وفاة عطار النيشابوري، وكان يحمل بدوره لقب "فريد الدين". وقد ألّف هذا الشاعر منظومات كثيرة، منها مظهر العجائب، واشترنامه، ولسان الغيب، وكان يسعى من خلال شعره إلى إيهام القارئ بأنه هو نفسه فريد الدين عطار النيشابوري المعروف.

عطار هو الروح، وسنائي عيناه...

سواء كان عدد مؤلفات عطار 114 كتاباً أو 40 عنواناً أو حتى سبعة فقط، فإن ذلك لا ينقص من شأنه شيئاً، ولا يمسّ مكانته الراسخة في الأدب الفارسي. فبصمته في تطور اللغة والأدب الفارسي لا يمكن إنكارها. ويمكن النظر إلى قيمة عطار ومكانته من زاويتين أساسيتين:

أولاً، يُعدّ عطار أول شاعر أدخل التصوف إلى الأدب الفارسي بمعناه العميق والحقيقي. فرغم أن محاولات سابقة قد ظهرت قبله، إلا أن الطابع العرفاني كان يدخل أحياناً من بوابة الشريعة، وأحياناً أخرى من باب الفلسفة. أما عطار، فقد تجاوز هذا الإطار، مستنداً إلى المعارف الروحية في التصوف الإسلامي، ليُقدّمها بأشكال متعددة، من أبرزها الترميز الرمزي، الذي بلغ ذروته في عمله الخالد "منطق الطير".

ثانياً، تمثّلت عبقرية عطار في أنه لم يكتفِ بنقل التصوف من الساحة النظرية إلى الشعر، بل جعله ملموساً وعامّ الفهم، حين أدخله إلى الحياة اليومية من خلال حكايات تحوي شخصيات من عامة الناس. لقد خاطب الوجدان الشعبي، وأبرز أن هذا الطريق الروحي ليس نخبوياً، بل قابلاً لأن يسلكه كل إنسان.

ولا يمكن اختزال عطار في كونه شاعراً أو عارفاً فحسب؛ بل هو أيضاً منظّر بارع أعاد تشكيل التصوف الإسلامي، وركّز على "الإنسان" كعنصر محوري في تجربته. فخلافاً لكثير من المتصوفة الذين انشغلوا بوصف مراحل الطريق وشروطه ومصاعبه، أعار عطار اهتماماً بالغاً لحال الإنسان ذاته قبل أن يدخل هذا الطريق. لقد حدّد العقبات التي تعترض كل شخصية في مسيرتها، ورأى الإنسان كائناً رمادياً، فيه الخير والشر معاً، ومع ذلك يؤمن بقدرته على تجاوز ذاته وبلوغ "السيمرغ"(العنقاء).

كما تُعدّ أعمال عطار ذات أهمية لغوية وأدبية كبرى، لما فيها من تجديد في الأسلوب والرموز. ويُعرف أكثر ما يُعرف بعمله منطق الطير، وهو منظومة شعرية تحكي قصة ثلاثين طائراً يواجهون صعوبات وموانع في رحلتهم نحو "السيمرغ" (العنقاء)، وقد ألهم هذا العمل العديد من الشعراء من بعده، فظهرت "منطق طير"ات عديدة لاحقة. وتكمن فرادة عطار في ابتكاره رموزاً جديدة لطرح القضايا الروحية؛ فالطيور في هذا العمل تمثّل نماذج بشرية، لكلّ منها طباعه الخاصة التي تشكّل عائقاً أمام ارتقائه الروحي.

من ناحية أخرى، يمكن اعتبار منطق الطير ملحمة صوفية؛ إذ يجتاز السالك في هذا النص عقبات داخلية وخارجية، ليصل أخيراً إلى غايته المنشودة، وهي "السيمرغ" (العنقاء). وفي الوقت نفسه، يُدخل عطار تعبيرات بطولية إلى الأدب العرفاني، مثل رمزية "السيمرغ" (العنقاء) التي ستتكرّر لاحقاً في أدبيات التصوف.

الطريق الذي شقّه عطار، بلغ ذروته مع مولانا جلال الدين الرومي، ثم اكتسب لوناً جديداً على يد حافظ الشيرازي.

/انتهى/

 
 
أهم الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
عناوين مختارة